
يا ليلى ليلك جَنَّ!!! …. د. ريم عماره
د. ريم عماره
د. ريم عماره
……………………….
في زيارة للسودان الحبيب، مشحونة بعواطف متضاربة بين روعة الثورة وآلام فض الاعتصام وحماس الاحتفال بالعيد الأول لثورة ديسمبر ..
محملة برسائل عديدة من زملائي الأطباء و زميلاتي الطبيبات في بلاد المهجر ..في محاولات جاهدة أن نضع بصمتنا – نحن أطباء المهجر – لنخط بها حرفاً أو نقطة في أروع لوحة يشكلها أطباء الوطن (الصابنها ).. (جيش السودان الأبيض) ..
مشاريع و مخططات نظن إنها تكفي لتلبية نداء الوطن .. و نظن إنها تسكت الحنين المفرط حد الألم في دواخلنا..
تبدأ زياراتي الميدانية لبعض المراكز الصحية والمستشفيات خارج الخرطوم، للتعرف على الاحتياجات لهذه المرافق الصحية.. ومن ثم تقييم حجم و شكل المساعدات الممكنة ..
وقبل موعدي مع مدير المستشفى بحوالي 5 دقائق، تلقيت اتصالاً يعتذر فيه عن الاجتماع، حيث أن ضغط المرضي أكبر من المتوقع ..
عرضت المساعدة و أن أتواجد معهم لعلي أقدر على المساندة ولو بالشئ اليسير.
فاجأني بالقول: ( والله يا دكتورة نحنا محتاجين مساعدة شديدة لكن ما عارف كان بتقدري على حتتنا دي !!
دكاترة أمريكا ديل بيشتغلوا بي مواصفات ) !!!!!!
شعرت بالاستفزاز!!!! او بالأصح شعرت بالمهانة رغم أن الرجل لم يقصد ذلك أبداً …
وجدت نفسي أجيب بحزم: العيا ما بيفرق في أمريكا وللا في السودان. أنا داخلة حسي من باب المستشفى..يا ريت توريني أتجه على وين عشان نشتغل و ما نضيع زمن!!!
أرسل لي طبيباً في الامتياز ليصطحبني الى داخل غرفة الحوادث (المتهالكة) ، و يطلعني على مهامي التي أوكلها اليَّ مديره..
والتحية والتقدير لطبيب الامتياز الهميم.. فقد كان نعم المرشد لي و ساعدني كثيراً في استرجاع ما فقدته من مقدرات إكلينيكية كنت قد فارقتها لسنوات نسبة الى طبيعة المجال الذي تخصصت فيه..
وجاءت مريضة اسمها الخالة ليلى.. حالة هبوط حاد في الدورة الدموية.. وضغطها يتهاوى بشكل مقلق ..
و من الوهلة الأولى.. أدركنا أن الخطوة الأولى لانقاذها هي المحاليل الوريدية ( الدربات) حتى يرتفع ضغط الدم ويستقر..
فأُسرِع الخطى لطلب المحلول.. لكن.. أدّوني كيس واحد بس وقالوا لي ( كدي إن شاءالله بينفع..إنتي بس جربيهو) .. قبلت على مضض، و أنا على يقين انها ستحتاج المزيد..
أرجع إلى الخالة ليلى..واطمئنها انها ستكون بخير بعد هذا المحلول إن شاءالله..
تبتسم ابتسامة متعبة وتقول ( توسمت الخير فيكي من ما شفتك، و ربنا يجعل الشفا على يدك يا بتي)..
وقبل أن أدخل المحلول في وريدها.. أسمع من يصرخ من خلفي: (الحقونا بي محاليل وريدية سريعة يا جماعة ، الولد ده حيموت !!!!!!!!!!!!
ومع التفاتتي، أسمع الرد: والله يا دكتور آخر محلول وريدي عندنا استلمته الدكتورة ديك عشان تديهو الخالة التعبانة بي هناك في السرير المطرف داك!!!
وتقع عيناي على شاب ربما كان في العشرينات وهو فاقد للوعي بجانبه واحد من الأطباء ومجموعة من الأقرباء و الأهالي ..
ويأتيني صوت الخالة ليلى الضعيف المتهالك:
( أديهو الوليد يا بتي..
المحلول .. أديهو الوليد داك يا بتي)!!!
يأتيني الطبيب الذي يباشر حالة ذلك الشاب :
( يا دكتورة تقييمك شنو لي حالة الحاجة دي؟؟ ممكن نشربها محلول تروية أو موية ملح لو وضعها ما حرج؟؟) ( المريض داك وضعو ما بيطمن وفاقد الوعي وعندو هبوط حاد، لازم نرسلو المركز فوراً لكن حيموت قبل ما يصل لو ما حاولنا نرفع الضغط شوية، والعندك ده آخر محلول عندنا).
قبل أن اقول حرفاً، تتكفل الخالة ليلى بالرد بصوت متخافت مقلق أكثر 🙁 أنقذوا الجنى اللسة ما شاف لي الدنيا شي .. يمكن هسسسسه يكون شايل أهلو .. وللا يمكن عروستو مستنياهو)..
وأسقط في يدي.. وجدت نفسي بين المطرقة والسندان..
وذهب المحلول (الأخير) للشاب .. ( الجنى اللسة ما شاف لي الدنيا شي)..
وأجد نفسي أخلط الماء بالملح و أناول ( الكوز) للخالة ليلى..
و أسندها على يدي و أمسك لها ( الكوز ) لتشرب، وأنا أكتم صوتي المتحشرج فلا أريد أن أزيد معاناتها..
ولكن.. تهرب دمعة متمرده من بين أسوار عيناي.. فتنزل و تكحلها عيون خالتي ليلى..
فتمد يدها المرتجفة و بنصف وعي تمسح دمعتي وتقول : ما تبكي .. نيتك طيبة، لكن الدنيا ما بتنقدر )!!!!
وتفقد الوعي الخالة ليلى!!!!!!!!!!!
تفقد الوعي بعد أن أهدت علاجها لذلك الشاب حتى (لا يموت في العشرين)..
أهدته المحلول .. و أهدتني خنجراً غرزته في صدري ..
أتلم الكادر الطبي و كل المرافقين في ( أوضة) الحوادث.. أسمع أصوات عالية بتقول ( العربية جاهزة…)
وفي ثواني معدودة .. تُحمَل الخالة ليلى في العربية إلي اقرب مستشفى تانية ……..ثم أعرف لاحقاً انها انتقلت الى رحمة الله!!!!!!!!!!!!!!!!
خالتي ليلى ماتت!!!!!!!!!!!!!
ليه يا خالتي ليلى..
ما قلتي اتوسمتي فيني الخير !!!!
ليه يا خالتي ليلى…..
ليه تعملي فيني كده ؟؟؟!!! …هو إنتي الجيتي في طريقي وللا أنا الجيت لحدي عندك؟؟
تعرفي يا خالتي ليلى..
نحنا كنا بنقول دايرين نجهز بروتوكولات لاستعمال المحاليل الوريدية…. وقاعدين نجهز في جداول و كورسات و قصص..
لكن فات علينا إنو المحلول في عضمه مافي!!!!!!..
تعرفي يا خالتي ليلى..
أنا شغالة مع دكاترة كتااااااااااااااااااااااااااااار ، شغالين ( بي فهمنا غايتو) عشان نساعد في توفير مقومات العلاج الأساسية، لكن إنتي ما انتظرتينا..
هو إنتي المستعجلة و للا نحن البطيئين؟؟؟؟؟؟؟؟
أجر قدماي جراً الى خارج المبنى.. تقطرني قطرات الدم النازفة من خنجر خالتي ليلى المغروس في القلب..
عدت إلي الخرطوم…ومنها في طريقي الى بلاد اللا هوية..
أفتح بريدي الإلكتروني لأجد رسالة من المؤسسة الطبية التي أعمل بها في بلاد الغربة، قد تم اختياري للتكريم كطبيبة متميزة لهذا العام .. .. وسيل من إيميلات التهاني و المباركات جامدة كجمود الحروف الإلكترونية، فاقدة للروح و الوجدان..
وبخبرة سنين الغربة في بلد عقدها منظوم في ساقية الـ system..أصبحت أدرك تماماً أن السيف و الدرقة في تلك البلاد هو أن تكون جزء من ماكينة دفع تلك الساقية وإلّا ستطحنك بلا هوادة..
ألمح ابتسامة الـ system الصفراء بين سطور التهاني و المباركات، وأرى بقلبي المجروح الرسالة المكتوبة بالحبر السري .. أراها بوضوح الآن…….(كلما صعدت درجة في ذلك السلم، أصبحت اقرب درجه لمركز ماكينة الساقية، فيصبح المطلوب دفع تلك العجلة بقوة أكبر .. وأن تغرق في التفاصيل أكثر .. فيزداد لهاثك و انقطاع أنفاسك .. فتفقد كثيراً منك ، و يتبقى بعضك المحترق بلهيب الحنين و أحلام العودة الى الوطن التي تتسرب من بين يديك كلما كبَّلك ذلك الـ system أكثر..
يااااااا للمفارقة.. شتان بين فرحة التكريم الأول في بدايات الغربة و إثبات الوجود ، وبين هذا التكريم الذي زامن خالتي ليلى و خنجرها الدامي في صدري..
هم ما عارفين الحصل شنو ..ما عارفين إنو أنا ما قدرت أنقذ خالتي ليلى..
يا خالتي ليلى كلميهم.. قول ليهم النجاح الحقيقي في بلدنا … وسط ناسنا وأهلنا ..
ونحن لسسسسسسسسسسسة طريقنا طويييييييل ..
و ما ينتظرنا عظيم.. و ما يرجى منا كثير .. كثير
الله يسامحك يا خالتي ليلى.. جرحك غائر و ما زال يقطر دماً.. قابلتك و عرفتك دقايق معدودة لحكمة يعلمها الله..
أسأل الله العلي العظيم ان يدخلك الجنة من اوسع ابوابها ..
لك الرحمة و المغفرة وجنات الفردوس الأعلى باذن رب العالمين ..
و لك الله يا وطني …..
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …