‫الرئيسية‬ رأي المحاسبة عن الجرائم الاقتصادية في مراحل التحوُّل
رأي - ديسمبر 15, 2020

المحاسبة عن الجرائم الاقتصادية في مراحل التحوُّل

علي عجب المحامي

من القواعد الثابتة في وثائق المركز الدولي للعدالة الانتقالية القول بأن” العدالة يمكن أن تُعزِّز وتُواجه الإفلات من العقاب بفاعلية أكبر إذا تطرَّقت للمحاسبة على الفساد والجرائم الاقتصادية”. ليس كل البلدان التي انتقلت من أنظمة فاسدة تصبح ديمقراطية لحظة التغيير، وإنما يكون هناك إرث ضخم من الفساد والفاسدين الذين يعرقلون عملية التغيير بأكملها، وبالتالي مواجهة هذه التركة بسياسات ومناهج محكمة يمكن أن تضع البلاد والتغيير في مساره الصحيح، إلى أن تقضي على آخر ملامح الفساد .
لقد توفي بينوشيه دون أن يُحاكَم على جرائم الفساد المتمثل في الحسابات البنكية التي كان يراكم فيها ثروات ضخمة وهو سلوك كل الديكتاتوريين، وكان السبب أن الذين تقلدوا مهام التغيير بعد بينوشيه اهتموا فقط بالانتهاكات الجنائية، وملاحقة بينوشيه على الجرائم غير الاقتصادية حتى انتبهوا بعد وقت قريب من وفاته إلى هذه الأموال الضخمة التي كشفت عنها تحقيقات أمريكية، وكان بينوشيه قد استخدم تلك الأصول في تلك الفترة.
في نيجيريا اكتشف أن الثروة التي كان يخفيها المخلوع ساني أباشا قد وصلت إلى 4 مليار دولار، كان أباشا قد جمعها هو وأفراد عائلته بعمليات فساد واسعة، وتحت ضغوط أعاد مصرف سويسري وآخر أمريكي في عام 2011 جزءاً من هذه الأموال، إلا أن النيجيريين لم يستردوا كل المبالغ وقد بقيت في يد عائلته واستمرت تفسد بها الحياة السياسية، وتبني بها نفوذها وتتمكَّن عن طريقها من الإفلات من العقاب بتوسيع دائرة المنتفعين.
في جمهورية الكنغو اختلس موبوتو سيسي سيكو مبلغ 12 مليار دولار، لم يُسترد منها أي شيء، لأن الجرائم والفظائع التي ارتكبها جعلت السياسيين والقانونيين يركِّزون على الملاحقة الجنائية لتلك الجرائم، في الوقت الذي كانت تلك الأموال والثروات تمكنه وعائلته وحاشيته من عرقلة عملية الانتقال بأكملها.
في أندونيسيا لم يحاكم سوهارتو عن الفساد ولا الجرائم الجنائية التي ارتكبها حتى وفاته وكان قد اختلس 9 مليارات دولار وكان ذلك أيضا بالتركيز على الشق الجنائي وإهمال الفساد الاقتصادي وقد ثبت بالتجربة أن إهمال هذا الجانب من شأنه أن يعرقل عملية الانتقال بأكملها حيث أن المنتفعين من هذه الأموال يجدون نفوذا وسط الممسكين بالسلطة وربما يكون العسكريين جزءاً من هذا الفساد وبذلك يتمُّ تعزيز ثقافة الإفلات من العقاب.
كما أن سلوك المقاضاة الجنائية التقليدي في ملاحقة هذه الجرائم قد مكَّنهم من المناورة وتعطيل الإجراءات إلى حين طمس ملامح الاختلاسات وشراء ذمم مزيد من المسؤولين الذين يكون وجودهم في السلطة حافز لهم لمنع المحاكمات مقابل حمايتهم، وفي كثير من الأحيان، ينتبه من يصل إلى السلطة عند الانتقال إلى أن هناك ثروات ضخمة يمكن أن يحصلوا عليها بإجراء صفقات من المفسدين الذين يسعون إلى إخفائها بشتى السبل.
إن المفسدين في نظام الإنقاذ قد استولوا على موارد ومدخرات السودان لفترة ثلاثة عقود واحتفظوا بها باشكال متعددة من طرق غسيل الأموال. إن تجريدهم من هذه الثروات سيُسهم في تمكين الديمقراطية بابتدار عملية تنمية حقيقية وإعادة بناء الاقتصاد الوطني، كما أن تجريدهم من هذه الأموال سيوقف العديد من الانتهازين من الهبة لمساعدتهم في التحايل على الإجراءات القانونية. في تجارب السودان القريبة دروس بليغة عن قدرة القانونيين أنفسهم في إفساد الأجهزة العدلية والقضائية في صفقات مشبوهة لاقتسام أموال الفساد.
خطوة أولى هامة:
يجب في البدء أن ينتبه القانونيين والمعنيين بالتغيير إلى ضرورة الحرص على إدراج الفساد الاقتصادي ضمن الجرائم الخطيرة في مرحلة الانتقال وفي أي إجراء وقتي يتخذ ضمن تدابير ملاحقة النظام السابق، سواء كانت جنائية أو تتعلق بتدابير العدالة الانتقالية وبالتالي تسير في نفس الاتجاه الذي تسير فيه عملية التغيير بأكملها.
إن التعامل مع المعلومات والمستندات المتعلقة بفساد النظام السابق بقدر عال من الأهمية لأن إرجاع الاموال التي تم تهريبها إلى الخارج وغالباً إدخالها في عمليات غسيل الأموال لطمس مصدرها، يعتمد بشكل كبير على المستندات التي يتمُّ ضبطها وتحريزها داخلياً.
إنشاء مفوضية الإصلاح الاقتصادي واجتثاث الفساد ومحاسبة المتورِّطين في جرائم الفساد

تكوين الحكومة الانتقالية يجب أن يكون مركزاً على إنشاء المفوضيات التي تضطلع بالمهام الأساسية لوضع ترتيبات انتقالية واضحة لتحقيق الانتقال الفعلي على الأرض. وما يجب أن ينتبه له السودانيُّون أنه في الفترة ما بين العامين 1974 إلى 2004 قد أنشئت 34 لجنة حقيقة كانت ثلاث فقط من ضمنها اختصَّت بملاحقة الجرائم الاقتصادية وهو ما يشير الى عدم الانتباه المبكر في مرحلة الانتقال إلى أهمية ملاحقة الفساد. وفي نفس الوقت يشير إلى بداية الاهتمام بإنشاء مفوضيات متخصصة لملاحقة الفساد.
السودان جزء من اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد وبالتالي إنشاء المفوضية هو جزء من التزامات السودان وفق هذه الاتفاقية، وبمجرد الاطلاع على الاتفاقية يمكن للقائمين على الفترة الانتقالية التعرُّف على الخطوات التي يتوجب عليهم اتخاذها بأسرع ما يمكن.
استرداد الأموال التي تمَّ استيلاء عليها في عمليات التمويل المشبوهة
قضايا الديون ذات القروض التي تمنح من بيوت التمويل بصفقات تنم عن ملامح فساد واضحة تعتبر من القضايا الملحة التي يجب ملاحقتها أول بأول. وهذا الأمر أصبح الآن أيسر ووأضح من حيث التدابير ، فقد حدث تطور كبير في آليات محاصرة هذه الأنظمة المالية التي ساهمت عن طريق التمويل الفاسد إلى إطالة عمر الديكتاتوريات وتقويتها للاستمرار في رهن المزيد من موارد البلاد مقابل الفوائد العالية التي لا تهتم لها الديكتاتوريات طالما انها تحصل على التمويل لتدفع فاتورتها الشعوب في أجيالها القادمة فقراً وتشريداً. ومن التقدم الذي أحرز في هذا المجال هو أن تمَّ إقرار نظم لمحاربة غسيل الأموال ضمن التشريعات الداخلية وفق اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد، وأصبح من الممكن للشعوب الضحية أن تتبع إجراءات قانونية واضحة لاسترداد ثرواتها. وقد اضطرت الى هذه الإجراءات بعض البلدان التي طفحت سمعتها في اجتذاب أموال الديكتاتوريات التي تسيطر عليها كودائع استثمارية كما حدث في سويسرا والمملكة المتحدة.
عملية كشف موطن الأموال والعوائد المتحصَّلة من أموال الفساد يجب أن تسير في اتجاهين،المسار الأول هو القيام بعمليات تحقيق داخلية عبر اتيام مؤهلة من المتخصصين في الأنظمة المصرفية وعمليات التمويل الدولية والسرعة في ضبط المعلومات الأساسية والمستندات التي تشير إلى مكان الاحتفاظ بتلك الأموال.
المسار الثاني هو استخدام سلطة الدولة في مخاطبة الأجهزة المعنية بملاحقة الفساد في تلك البلدان وفي هذا يجب أن يكون لاتيام المفوضية سلطات دستورية كافية تمكنها من القيام بهذه المهام بعيداً عن البيروقراطية، ويتحتم على هذه الاتيام الاستعانة بجهات متخصصة في كشف وملاحقة الاموال المستولى عليها عن طريق الفساد، هذا لأن العديد من الأموال عادة ما توضع في دول أوروبية يتطلب ملاحقة الأموال ضمن منظومتها القانونية السير في إجراءات عقيمة عبر ممثلين قانونيين يستهلكون في تلك البيروقراطية نصف الأموال المستردة إذا نجحت العملية وهو أمر مقصود بالضرورة.
اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد 2005
هذه الاتفاقية الحديثة نسبياً وضعت مبادئ مهمة في محاربة الفساد، أولها مبدأ حق الشعوب في استرداد الأموال ، وعلى إثر هذه الاتفاقيات تطورت العديد من التشريعات في البلدان التي نفذت الاتفاقية ضمن محاربتها لعمليات غسيل الأموال ومن ضمنها الولايات المتحدة وبريطانيا، ويمكن استخدام القانون الأمريكي ضد مرتكبي هذه الجرائم من غير الأمريكيين، وقد رفعت تلك التدابير من مستوى عدم التسامح مع المفسدين الذين يهربون بأموالهم إلى تلك البلدان.
الملاحظ في السودان أن التوثيق الذي يقوم به المواطنين للجرائم التي ارتكبها نظام الإنقاذ في جانب كبير منه يكشف عن عمليات فساد منظمة اختلط فيها النفوذ السياسي والقرابة والمصاهرة بالمال العام والخاص، مما يعني أن الفساد يجب أن يكون هو الإطار الأشمل الذي تسير كل عمليات الإصلاح ضمن إطاره، ففساد الأنظمة العدلية يجب أن ينظر إليه من معيار الفساد الاقتصادي قبل أن يكون فساداً إدارياً أو مهنياً، وبالتالي تأخذ الصورة الأكبر في الظهور وتتمكن كل عمليات الإصلاح من التوصل إلى المسببات وحجم الأضرار والضحايا وبقدر التوصل الى الأضرار يتم التوصل إلى الضحايا، وبالتالي مزيد من المعلومات ومزيد من الاقتراب من قضايا السودانيين وخبراتهم ومشاهداتهم.
النظر إلى ملاحقة الفساد الاقتصادي وعلاقته بمفوذ المليشيات ففي سيراليون أشار تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة إلى أن “سنوات الحكم السيىء والفساد المستشري وإنكار حقوق الإنسان الأساسية هي من بين الأسباب التي أفضت إلى النزاع المسلح وبروز شركات محددة لاستخراج الماس كانت على صلة بمجموعات مسلحة في البلاد”. وفي السودان أصبحت هناك مجموعات مسلحة تنشيء إمبراطوريات لتعدين الذهب وتهريبه إلى خارج البلاد وقد يكون الاهتمام المتعاظم لدول الاتحاد الأوروبي بجبل عامر هو محاولة لضمان استمرار عمليات تهريب الذهب.
إن الكشف عن الجرائم الاقتصادية وملاحقة فساد الأنظمة الديكتاتورية من أعقد المهام. إن الفساد الذي استمر لعقود قد أدخل العديد من أجهزة الدولة في عمليات الفساد، وبالتالي يصبح هناك إمكانية أكبر للمماطلة وإطالة أمد التحقيقات إلى أن تفسد العملية بأكملها.
السودان طرف مصادق على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد
صادق السودان على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد في سبتمبر 2014 وبذلك أصبحت جزءاً من التشريعات السودانية التي يجب إنفاذها بشكل كامل. وهي اتفاقية مهمة بعد أن أصبحت من أكثر الاتفاقيات قوة بسبب الإقبال الواسع في المصادقة عليها (186 دولة). هذه الاتفاقية وضعت أسساً دولية جديدة لملاحقة الأموال المنهوبة وغسيل الأموال خاصة من بلدان العالم الثالث، ودخلت حيز النفاذ منذ أكتوبر 2003.
ضرورة أن يكون اختيار أعضاء المفوضية على أساس المبادئ التي أرستها الاتفاقية وأن يكون اختيار الأشخاص على أساس الخبرة لتشكيل فريق من ذوي التخصُّصات الدقيقة في محاربة الفساد يتمتَّعون بالقدرات المطلوبة وليس على أساس المحاصصات السياسية.
يجب أن يستبعد من المفوضيات كل من تكون حوله شبه فساد أو مساندة المفسدين في النظام السابق لأنه من شأنه أن يعيق كل عمليات الملاحقة.
أن يكون عمل المفوضية محدداً بجداول زمنية توضح فيها الأهداف والنتائج المفترض تحقيقها ويكون هناك جهة تراقب أداء المفوضية وتقيم الإنجازات مقابل المهام المدرجة في جدولها.
الاستعانة بخبراء في الدول التي لها تجارب في محاربة الفساد والاستفادة من المساعدات الفنية التي يمكن أن تقدمها الأمم المتحدة ممثلة في اللجان الدولية المنشأة على أساس اتفاقية محاربة الفساد.

‫شاهد أيضًا‬

مع السلامة

الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …