
نوايا حمدوك حيال الشركات العسكرية
محمد حسبو :
جرأة الدكتور عبد الله حمدوك، الذي لم يشتهر بميله إلى المواجهة، أثارت الإعجاب حينما تحدث قبل أيام عن ضرورة الحد من فاعلية نشاط ونفوذ الشركات التابعة للجيش والقوات النظامية خارج مجال الأنشطة ذات الصلة بطبيعتها، وذكر حمدوك، في السياق، أنّ “توجههم” لمعالجة وضع شركات الجيش يتمثل في فتح الشراكة فيها للمواطن السوداني (وهو الاسم الحركي للقطاع الخاص الذي بدوره يواري كناية أخرى عن كبار الرأسماليين) بتحويلها إلى شركات مساهمة عامة. حصد صدر عبارة حمدوك الثناء والاهتمام بسبب حمية الرغبة في التخلص من سيطرة المكون العسكري دون الالتفات المستحق إلى الجانب الآخر من عبارة حمدوك..
وقبل يومين، نشر الأخ الوزير مدني عباس منشورًا بصفحته في فيسبوك جاء فيه تفصيل لما أجمل حمدوك، قال سعادة الوزير:
“وفي ما يخص موضوع الشركات العسكرية والأمنية فإن الطريق الأمثل لمعالجته والذي تبنته الحكومة التنفيذية الانتقالية في رؤيتها للإصلاح الاقتصادي هو أن يتم تصنيفها وتحويلها لثلاثة مصاير على حسب وضعية كل مؤسسة:
أ/ شركات تتحول لشركات مساهمة عامة.
ب/ شركات تتحول لشراكات بين القطاع العام والخاص PPP
ج/ شركات يتم بيعها للقطاع الخاص.”
كلام مدني ينتهي هنا. وكما يتضح اختفى كليًّا خيار أيلولة هذه الشركات (الحكومية) كما هي لوزارة المالية من خيارات حكومتنا أعلاه، وأصبحت مشاركة القطاع الخاص في ملكيتها هي القاسم المشترك بين الخيارات التي “تبنتها” الحكومة الانتقالية..
قرار تحويل هذه المؤسسات لشركات مساهمة عامة (حتى لو شاركت الدولة بحصص فيها) أو بيعها للقطاع الخاص يندرج تحت مسمى خصخصة المؤسسات الحكومية؛ ويلزم أن يجيزه المجلس التشريعي (الفعلي وليس هجين مجلسي السيادة والوزراء، لدرء تعارض المصالح) في إطار رؤية كلية لدوري القطاعين العام والخاص، كما يجب أن يتساوق مع الاعتبارات الواجب توفرها قبل طرح هذه الشركات للمساهمة العامة، وأولها موثوقية تقييم هذه الشركات، وتقوية ضوابط الإفصاح المالي وشفافية البيانات لدى الجهات المنظِّمة لعمليات الإصدار والتداول (سوق الخرطوم للأوراق المالية)، قبل ودون ذلك فإن دعوة المواطن السوداني للمشاركة في ملكية هذه الشركات هي محض “عزومة مراكبية” كما يُقال..
أما الخيارين الأخيرين فيما أورده مدني، الشراكة مع أو البيع للقطاع الخاص، فهما في واقع الحال يعنيان إخراج طيرة العسكر بالباب وإدخالها بالشباك عبر واجهات وكلاء أو شركات رمادية، ويعني أيضًا تطعيمها بالشراكة مع قلة منتقاة من أعيان القطاع الخاص ممن تجب مكافأتهم، باستمرار، على أدوراهم في رسم مسار التغيير، منذ استغاثاتهم التي حذّرت في أواخر سنوات الإنقاذ من انهيار اقتصادي وشيك من شأنه نسف استقرار السودان والإقليم. واستغاثة أعيان القطاع الخاص هي مما يؤخذ على محمل الجد في أروقة صناع السياسات، فتجاوَبَ الغرب مع أصداء النداء واستخَفّ منظماته لبحث أفضل السبل لتفادي ذلك الانهيار من خلال العمل مباشرة مع القطاع الخاص (في ظل الحرج الرسمي من دعم سلطة الإنقاذ)، ومنه تولدت مبادرات باتت أشهرها سلسلة حوارات “أصحاب المصلحة” التي نظمها بيت شاتام هاوس العتيق في الربع الأول من 2019 أثناء الحراك الشعبي الذي أطاح بحكم البشير، قبل أن تُستأنف في أكتوبر من ذات العام بعدما أصبح ميسِّر تلك الحوارات، الدكتور عبد الله حمدوك، رئيسًا لوزراء السودان..
من ميزات ثورة ديسمبر، وما أكثرها، أنها ستعيننا بأكثر من سابقاتها على فهم تعريف السياسة بكونها التعبير المكثّف عن الاقتصاد، والطرف القريب لاستجلاء هذا التعريف هو انخراط رموز الرأسمالية السودانية، التي كان لها باع في مصانعة الإنقاذ، انخراطها في بزنس التغيير المحسوب بشكل سافر وغير مسبوق بعدما استيأسوا من إمكانية مواصلة البزنس آز يوزوال تحت خناق العقوبات على الإنقاذ، فكانوا عماد كل مبادرات “المنطقة الثالثة” منذ آخر أيام المخلوع مرورًا بالعشاء الأخير (والحاسم) ليلة الثلاثين من يونيو عقب مجزرة فض الاعتصام، وبانتظارهم دور أكبر في إطار الرؤية التنموية التي محورها تمكين القطاع الخاص بموجب النموذج الإرشادي الذي تعمل وفقه حكومة حمدوك.
هذه المعالجة المقترحة لشركات الجيش هي prototype سيتم تعميمه وتطبيقه بصورة أوسع لو جاز، وهذا أحد أوجه ضرورة تشكيل المجلس التشريعي بشرط الاستقلالية وشمول التمثيل بما يؤهله لأداء حق الرقابة الشعبية على مثل هذه الصفقات بين كارتيل “أصحاب المصلحة” كبار الجنرالات وأعيان الرأسمالية والمسيِّرين، ومعركة قوى الثورة هي فرض وجودها فيه وإبطال محاولات تلتيقه كبرلمان الإنقاذ مجلسًا للثرثرة والبصم وتعبئة الضل في القزاز..
إنها لمفارقة أن تستنبط الحكمة التي تلزم الثوار من إجابة بول كروغمان الاقتصادي الأميركي الشهير على سؤال الملكة إليزابيث بشأن أزمة العام 2008 عن “لماذا لم يرَ اقتصاديونا الأزمة قادمة؟” فكانت إجابته (بما معناه): “لأنهم (الكينزيون الجدد) كانوا ينظرون في الاتجاه الآخر”، فلا بد لثوار ديسمبر أن ينظروا أيضًا تجاه عجز عبارة حمدوك، بل وفي كل اتجاه، عملًا بشعارهم النبيه: أصحى يا ترس..
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …