
فيلم ستموت في العشرين..انتصرت الصورة و انهزم الحكي
عبد الرحمن حمد :
أول ما تبادر لذهني عند نهاية العرض، أن وراء هذا الفيلم جهداً مبذولاً و صناعة متعوب عليها، تحس ذلك في الإهتمام بالتفاصيل والحرص الذي لا يشابه بعض من طريقتنا في (كلفتة) الأشياء، وسأحاول أن أدرج ملاحظاتي غير المتخصصة طبعا، في شكل نقاط:
الصورة:
أعتقد أن المخرج أمجد أبوالعلا كسب الرهان حول قدرة الكاميرا في قول الكثير في صمت، فزوايا التصوير والالون المستخدمة ألقت بظلال الموت على معظم المشاهد وهو مايتسق مع المحور الرئيسي في الفيلم، فتجد أن الألوان القاتمة تسيطر على الأزياء باستثناء زي الدراويش و ملابس ست النساء و بيجامة حمراء لسليمان، وهو ما يتسق أيضا مع طبيعة أدوارهم..
مشهد الدراويش في المراكب ومشهد سكينة بعد الظار محاطة بسيدات بالثوب الأبيض وطرابيش حمراء كانا تحفة في الألوان والتصوير.
لمحت في بعض اللقطات طرفاَ بعيدا من صورة داوود عبدالسيد في أرض الخوف و رضوان الكاشف في عرق البلح..
الصوت:
هنا تبرز من جديد جملة أنها صناعة متعوب عليها، وذلك في الاستخدام الذكي لصوت ضربات القلب في عديد من المشاهد، وفي صوت التنفس السريع لأكثر من مشهد لمزمل، كما أن إستخدام المناحات وأصوات حلقات الذكر كان مميزا..
أحسست بمحاولة حشر لأدبيات الثورة بإستخدام مقطع من أغنية يا شعباً لهبك ثوريتك بأداء الشاب الذي أشتهر أيام الثورة وليس بأداء صاحبها محمد وردي، فالمقطع حديث مما لا يتناسب مع شخصية سليمان الغارق في الكلاسيكيات فيما يخص الفنون والمُستلب (لو صح الوصف) فنيا لصالح مصر فيما يخص اختياراته. في نفس الصدد، أتى مقطع لو بتتحمل سكة السفر الطويل بأداء إيلاف عبدالعزيز غريبا لحدما عن الجو العام للفيلم الذي يعطيك انطباع لزمن قديم رغما عن كون الفيلم لايحدد زمن حدوثه..
القصة و الحوار:
السيناريو في رأيي هو الحلقة الأضعف في الفيلم، فقد جاء الحوار فقيراً من ناحيتي الكم والنوع، وربما حاول صانعو الفيلم عكس الصورة النمطية عن الدراما السودانية بأنها في معظمها إذاعية تعتمد على السيناريو، بأن أكثروا من بهار الصورة و نسوا الكلام.
كان يمكن إضافة الكثير حول إعلاء قيمة الحياة مقابل الموت من خلال حوارات سليمان ومزمل، وكان يمكن إضافة الكثير حول معاناة النساء في بلادي من خلال حوارات سكينة مع زوجها أو مع رابحة محمد احمد.
وعلى مستوى القصة نفسها كان يمكن تقديم نقد أقوي لنموذج التدين القائم على سطوة الخرافة وقداسة الأفراد من داخل منظومة التدين نفسها من خلال شخصية شيخ الخلوة مثلا..
التمثيل:
فاجأنا الفيلم بممثلين في أول ظهور لهم ويؤدون شخصيات رئيسية.
بشكل عام إسلام مبارك (سكينة) و بنه خالد (نعيمة) و محمود السراج (سليمان) كانوا الأبرز بالعفوية وتقمص الدور ولأول مرة يغيب عني كمشاهد ذلك الشعور بتكلف الممثلين، بالإضافة للمبدعة القديرة رابحة محمد احمد على قصر دورها..
أداء مصطفى شحاتة (مزمل) كان متوسطا.
وفق صناع الفيلم في وجود شبه بين شخصيات الفيلم في مرحلتي الطفولة والصبا (مزمل ونعيمة وجاد الله صديق مزمل) ولكن اختيار طلال عفيفي في ظني لم يكن موفقاً فالملامح وطريقة الكلام لم تتناسب مع دور رجل القرية الريفي، وربما كان يمكن معالجة بعض ذلك عبر مكياج الشخصية..
التصنيف العمري للفلم بحسب دار العرض +18:
طبعا بشكل عام مسألة ماهي حدود الآداب والفنون في تناول المسكوت عنه، من الجدليات القديمة المتجددة في كل مكان وزمان، ولكن كونه الفيلم الأول للسينما السودانية بعد انقطاع يفوق العشرين عاما، تمنيته أن يكون لكل الأعمار، وذلك لحالة التشوق التى تصل حد التلهف لنا كسودانيين لمشاهدة انتاجنا عبر الشاشة الكبيرة، وربما حينما يغزر انتاجنا، يتاح لنا ترف إختيار مشاهدة سينما سودانية بحسب التصنيف المناسب لكل شخص، والسبب الثاني لأمنيتي هذه يعود لأن اسباب تصنيفه +١٨ ، كان يمكن الاستغناء عنها دون الإخلال بالفيلم، وهي لو جاز لي حصرها، لفظة شتيمة لسليمان ومشهد بين مزمل وست النساء، وعلى المستوى الشخصي فإن لفظة الشتيمة استفزتني أكثر من المشهد، لأني أحسستها محشورة بتكلف..
هل من رسالة؟
الفنون ليست غائية بالضرورة ويكفيها أحيانا طرح الاسئلة ، أو حتى مجرد الإمتاع يكفيها، و لا أعتقد الفيلم هدف لإيصال رسالة ما وإن سلط الضوء على مناطق معتمة بغرض إثارة النقاش، ولكن بسبب اجواء استقطاب مابعد الثورة، لن استغرب ان يتعرض للظلم فيظنه البعض يتعرض للتدين بالنقد السالب، من خلال نموذج قداسة الخرافة (الشيخ) و نموذج تحرش خليفة الشيخ بمزمل كأمثلة للتوضيح..
….
ختاماً، الفيلم، بلاشك مادة ممتعة للمشاهدة، و نقلة نوعية ايجابية ومهمة فيما يخص تقنيات الصورة والإخراج وعموم صناعة السينما السودانية، التحايا والشكر لصُناعه..
مع السلامة
الطيب عبد الماجد لا أدري من هو هذا المسافر ولكن بالحب والدموع كان الوداع على عتبات المطار …